فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن فالإسلام جاء ليحمي كرامة الإنسان في حرية الاختيار، ويعرض عليك أمر الإيمان، فالذي حمل السيف، لم يحمله ليجبر أحدًا على الإيمان، إنما ليرد كيد من أرادوا قهر الناس، والجزية إنما فرضت لإعفاء غير المسلمين من مسئولية القتال، ولو كان الإسلام يفرض الإيمان على الناس في البلاد التي فتحها لما وجدنا أتباع أي دين في البلاد التي دخلها الإسلام.
وهذه شهادة للمسلمين.
إن الإسلام لم يجيء ليفرض دينا وإنما جاء ليحمي حرية اختيار الدين؛ والَّذين يقولون: إن الإسلام جاء بالسيف نقول لهم: افهموا جيدا، لقد كان المؤمنون الأوائل ضعافا وظلوا على الضعف مدة طويلة، والبلاد التي فتحت بالإسلام مازال فيها أناس غير المسلمين، وهذا دليل أن الإسلام جاء ليحمي حرية الاختيار: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
ثم نأتي لنقطة أخرى وهي أن الإسلام لم يأخذ الجزية إلا لأن غير المسلم سيستمتع بكل خيرات بلاد الإسلام، والمسلم يدافع وأيضا يدفع الزكاة والخراج. إذن فالمسألة عدالة منهج، وعلى ذلك يجب أن نفهم أن قول الحق: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74].
فالقتال إنما جاء حتى تسيطر مناهج السماء، وسبحانه حينما يقول: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فهذا يدلنا على أن هناك قتالًا في غير سبيل الله، كأن يقاتل الرجل حمية، أو ليعلم مكانه من الشجاعة، فقال الرجل دائمًا حسب نيته، ولذلك تساءل بعض الناس: من الشهيد؟ قال العلماء: هو من قتال لتكون كلمة الله هي العليا فيكون شهيدا. إذن فالقتال مرة يكون في سبيل الله، ومرة يكون في سبيل النفس، ومرة يكون في سبيل الشيطان.
يقول الحق: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي يبيعون الدنيا ليأخذوا الآخرة، {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
إذن فالذي يدخل القتال هو أمام أمرين اثنين: إما أن يُقْتل من الأعداء، وإما إن ينتصر، وهذه هي القضية الجدلية التي تنشأ بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، والمقاتل من معسكر الإيمان يقول لمعسكر الكفر: أنا أقاتل لإحدى الحسنين: إما أن أُقْتل فأصبح شهيدًا آخذ حياة أفضل من هذه الحياة، وإما أن أنتصر عليك، فلماذا تتربصون بنا أيها الكفار؟
إن المؤمن يثق أنه فائز بكل شيء؛ فإن قُتل ذهب إلى الجنة وإلى حياة أفضل من حياتكم، وإما أن ينتصر، والحالتان على سواء من الخير.
وهذا للاستدلال بأن هذا المنهج يراق فيه الدم، وشهادة لهذا الدين بأنه صحيح، وإلا فلن يذهب أحد للقتال إن لم يكن مقتنعًا بالدين، فكل واحد يعمل لحياته ونفسه، فكل الأمور بالنسبة للإنسان نفعيه حتى في الدين، ولذلك يقولون: لا تكن أنانيا رخيصا بل عليك أن تكون أنانيا غاليا، والدين هو ممارسة لأنانية عليا.
ونضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- الذي ليس معه إلا جنيه وهو يحتاج إليه ثم رأى واحدا في حاجة ماسة، فيقول المؤمن لنفسه: لقد أكلت، وقد يكون هذا الإنسان لم يأكل بعد فلأعطه الجنية.
بالله أهو يحب الذي أخذ الجنيه عن نفسه؟ لا، بل هو يحب نفسه، لكنها أنانية عليا؛ أنانية معلاة. وسبق أن قلنا: إن الذي يجلس ويرى امرأة جميلة فغض عينه أمره يختلف عن واحدٍ آخر يبحلق ويحدّق وينظر إليها بشدة، فايهما يحب الجمال أكثر؟ إن الذي غضَّ بصره هو من يحب الجمال أكثر؛ لأنه لا يريدها لحظة فقط، بل يريدها مستديمة.
فما بالنا بالذي يبيع الدنيا ويقتل في سبيل الله ويأخذ الآخرة التي ليس فيها قتل أو أي شيء مكدر؟ إذن فهذه أنانية عليا، والحق سبحانه وتعالى يعاملنا بقانون النفعية، لكنها نفعية عليا وليست نفعية رخيصة أو قصيرة المدى، فيجعلنا نبيع الرخيص بالثمن الغالي.
ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يقاتلون في سبيل الله وعرض عليه منظرهم وهو في ليلة الإسراء والمعراج؛ رأى صلى الله عليه وسلم جماعة يزرعون ويحصدون بعد البذر مباشرة؛ لأن الذي قتل في سبيل الله إنما فعل ذلك إعلاء لكلمة الله، فلا ينتهي قطفه أبدا للخير الذي بذله، وحياته مستمرة في حياة الملايين. {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وعرفنا أن كل مؤمن يقاتل في سبيل الله إنما يقول لمعسكر الكفر ما جاء به الحق في قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52].
فالمؤمن يعلم أنه إما أن يُقتل ويكون شهيدًا، وإما أن يَغلب معسكر الكفر. وهو يتربص بالكافرين أن يُصيبهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين، إذن فالمؤمنون رابحون على كل حال، والكافرون خاسرون على كل حال.
والمعرى قبل أن يهديه الله وكان متشككًا قال:
تُحطمنا الأيام حتى كأننا ** زجاج ولكن لا يُعاد لنا سبك

فقالوا: إنه ينكر البعث، فما دام قد جاء بمثل يقول فيه إن الإنسان كالزجاج إن تحطم فلن يستطيع أحد أن يعيده إلى سيرته الأولى، قال ذلك أيام تكبر الفكر، وهذه تأتي في أيام الغرور، ثم جاءت الأحداث لتلويه وتضرب في فكره وينتهي إلى الإيمان، لكن أكان ضامنًا أن يعيش حتى يؤمن؟ فلماذا لم يخلص نفسه من مرارة تجربة الشك؟ ولكنه بعد أن آمن قال: هأنذا أموت على عقيدة عجائز أهل نيسابور. ربنا حَقُّ وربنا سميع وربنا بصير وقال:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ** لا تحشر الأجساد قلت إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر ** أو صحّ قولي فالخسار عليكما

أي إن صحّ قولكما على أنه لا بعث وقمت أنا بالأعمال الطيبة في الدنيا، فماذا أكون قد خسرت؟ إنني لن أخسر شيئًا، وإن صحّ قولي وفوجئتم بالآخرة والبعث فأنا الذي يكسب والخسران والبوار والعذاب عليكما، إذن فإيماني إن لم ينفعني فلن يضرني، وكلامكما حتى لو صح- وهو غير صحيح ولا سديد- فلن يضرني.
والحق يقول: {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وسبحانه هنا يطيل أمد العطاء. انظروا دقة الأداء القرآني، لأن الذي يتكلم هو الله، ولنر كيفية ترتيب فعل على فعل، فحين أقول لك: احضر لي أكرمك، فبمجرد الحضور يحدث الإكرام، ولكن إن قلت لك: إن حضرت إليّ فسأكرمك، فهذا يعني أن الزمن يمتد قليلًا، فلن تكرم من فور أن تأتي بل أن تحضر عندي وبعد ذلك تأخذ تحيتك، ويأتيك الإكرام بعد قليل.
وإن أردت أنا أن أطيل الزمن أكثر فإني أقول: إن حضرت إليّ فسوف أكرمك. إذن فنحن أمام ثلاث مراحل لترتيب الجزاء على الفعل: جزاء يأتي بعد فور حصول الشرط، وجزاء يأتي بعد زمن يسير تؤديه السين، وجزاء يأتي بعد زمن أطول تؤديه. سوف.
ولم يقل الحق: من يقاتل في سبيل الله نؤتيه أجرًا عظيمًا، ولم يقل: فسنؤتيه أجرًا عظيما، ولكنه قال: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وهذا القول سيبقى ليوم القيامة؛ لذلك كان لابد أن تأتي سوف هنا، وهذا دليل على أنه جزاء موصول لا مقطوع ولا ممنوع.
وهكذا نرى إحكام الأداء القرآني، والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن نفسه وذاته، يأتي بأساليب كثيرة: فمرة يأتي بأسلوب الجمع، ونحن نقول، كما علمونا في النحو: النون للتعظيم كما في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
لم يقل: أنا أنزلت.. فكل شيء يكون نتيجة فعل من أفعال الله. تأتيه نون التعظيم؛ لأنه سبحانه حين يصنع شيئًا لخلقه من متعة أو من نعيم، يريد صفات كثيرة: قدرة للإبراز، وعلما لترتيب النعمة، وتدبيرا وحكمة، وبسطا، فيقول هنا: نؤتيه، لأن الصفات تتكاتف لتعمل الخير، لكنه حين يتكلم عن ذاته مجردًا عن الفعل. فسبحانه يتكلم بالوحدانية مثل قوله الحق: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي} [طه: 14].
وكذلك قوله الحق: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13].
فساعة يتكلم سبحانه عن ذاته فهو يتكلم بالوحدانية، ولا تقل بالإفراد تأدبًا مع الله فليس له شريك أو مثيل، وحينما يتكلم سبحانه عن فعله يأتي بالجمع فيقول: نحن وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، مثلما حدث عند قراءة قول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27].
لقد جاء سبحانه في صدر الآية: بأنزل وكان يناسبها أن يأتي بعدها أخرج، لكنه قال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} فلماذا هذه مفردة وتلك جمع؟؛ لأنه ساعة قال: {أنزلنا من السماء ماء} لم يكن لأحد من خلقه ولو بالأسباب فعل في إنزال المطر، لكن ساعة أن أنزل المطر، نجد واحدًا قد حرث الأرض، وثانيًا بذر، وثالثًا روى الأرض، وكل ذلك من أسباب خلقه، فلم يهضم الله خلقه فقال: {أنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ثم بعد ذلك: أنا وخلقي بما أمددتهم ومنحتهم {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}.
إذن فلابد أن ننتبه إلى دلالة الكلمة حين تأتي بالمفرد وحين تأتي بالجمع.
وقوله سبحانه: {نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} يلفتنا إلى أن كل فعل إنما هو حدث يتناسب مع فاعله أثرًا وقوة. فالطفل عندما يصفع آخر لا تكون صفعته في قوة الشاب أو قوة الرجل، فإذا كان الذي يعطي الأجر مثيلًا لك فسيعطيك أجرًا على قدره، لكن إذا كان من يعطي هو ربنا، فسيعطي الأجر على قدره، ولابد أن يكون عظيمًا. والأجر هو الشيء المقابل للمنفعة.
وهناك فرق بين الأجر والثمن؛ فالثمن مقابل العين، أما الأجر فهو مقابل المنفعة، أنا اشتريت هذه، فهذا يعني أني دفعت ثمنًا، لكن إن استأجرت شيئًا فهو لصاحبه ولكن أخذته لأنتفع به فقط، وجزاء الحق لمن يقتل في سبيل الله أهو أجر أم ثمن؟، ونلتفت هنا أن الحق قد أوضح: أنا لم أثمن مَن قتل، بل نظرت لعمله، فأخذت أثر عمله، وأعطيته {أَجْرًا عَظِيمًا}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {الذين يَشْرُونَ الحياة} فاعل، {فليقاتل} و{يشرون} يحتمل وَجهيْن:
أحدهما: أن يكون بمعْنَى: يَشْتَرُون.
فإن قيل: قد تقرّر أن البَاء إنما تَدْخُل على المَتْرُوك، والظَّاهرُ هنا أنها دخَلَتْ على المأخُوذ: فالجواب:
أن المراد بـ {الذين يشترون} المُنَافقون المبطِّئون عن الجِهَادِ أمروا بأنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاقِ، ويُخْلِصُوا الإيمان بالله ورسُولِهِ ويُجَاهِدُوا في سَبِيل الله، فلم نَدْخُل إلا على المَتْرُوك؛ لأن المُنَافِقِين تاركون للآخِرَةِ آخِذُون للدُّنْيا، وتقدير الكَلام: فِلْيُقَاتِل الذين يَخْتَارُون الحياة الدُّنْيَا، وعلى هذا التقدير فلا، بل حَذْفٌ تقديره: آمِنُوا ثم قَتِلُوا؛ لاستحالة حُصُول الأمْرِ بشَرَائِعِ الإسْلام قبل حُصُول الإسْلامِ.
الثاني: أن {يشرون} بمعنى: يَبِيعُون.
قال ابْنُ مُفَرِّعٍ: [مجزوء الكامل]
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ** مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ

قالوا: وبَرْد هو غلامه، وشريتُه بمعنى: بِعْتُه، وتَمَنَّى الموت بعد بَيْعِه فيكُون المراد بالذين يَشْرُون: المؤمِنُون المُتَخَلِّفُون عن الجِهَادِ؛ المؤثِرُون الآجِلَة على العَاجِلَة، وتصير هذه الآية في كَوْنِ شَرَى تحتمل الاشْتِرَاء والبَيْعِ باعْتِبَارَيْن؛ قوله- تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] على ما سَيَأتِي- إن شاء الله تعالى- وقد تقدم شيء من هذا أوَّل البقرة [الآية 16] والجمهور على سُكُون لام {فليقاتل} لأنها وَقَعَتْ بعد الفَاءِ والواو فأشبهَت اللفظة اكتفاءً، وقرئ بكسرها، وهو الأصل وأجاز إسْكانَها وكَسْرَهَا كهذه الآية، وقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [الحج: 29] وقد قرئ بهما. والجمهور على بناء {فيقتل} للمفعُول، ومحارب بن دثار ببنائه للفاعل.
والأوَّل أظهر؛ لقوله: {أَو يَغْلِبْ} ويقتل ويغلب عطف على شَرْط، والفَاءُ في {فسوف} جوابُهُ لا يجُوزُ حَذْفُهَا والمشهور إظهار هذه الباء عند الفَاءِ، وأدْغَمَها أبُو عمرو والكسائي، وهِشَام وخلاد بخلاف عَنْه.
والجمهور على {نؤتيه} بنون العظمة، وطَلْحَة بن مصرف والأعمش: بياء الغَيْبَة، وهما ظَاهِرَتَانِ. اهـ.